كتب المقال محمد سليمان، الذي يرى أن نهاية الحرب في غزة لا تمثّل مجرد هدنة عسكرية، بل تحولًا جذريًا في بنية الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية. فبينما يصف العالم ما حدث بأنه مأساة إنسانية، تنظر أنظمة المنطقة إليه كبداية لترتيب جديد، تُدار فيه السلطة لا بالمقاومة، بل بالتحكّم والاستقرار وإدارة الفوضى.

يُوضح موقع بوليتكس توداي أن المشروع العربي القديم الذي تشكّل حول فكرة "تحرير فلسطين" يتراجع أمام خطاب جديد يتحدث عن التحديث، والاستثمار، والتحول الرقمي. الأجيال الجديدة لم تَعُد ترى القوة في الأيديولوجيا، بل في البنية التحتية والإنجاز. وبذلك، تذبل لغة المقاومة لتحلّ محلها لغة الكفاءة والإدارة. هذه ليست مجرد تحولات خطابية، بل تغيّر في منطق الشرعية: لم تَعُد الشرعية تُستمدّ من التعبئة الشعبية أو الصراع، بل من الأداء، والإنتاج، والقدرة على ضبط الأسواق والمجتمعات.

يشير الكاتب إلى أن هذا الواقع الجديد يعني نهاية النفوذ التقليدي للحركات الإسلامية وغير الحكومية، التي كانت تُقدَّم رموزًا للمقاومة، لكنها باتت تُرى كعقبة أمام استقرار اقتصادي يجري هندسته بدقة. السلطة اليوم تُبنى في غرف الاجتماعات، لا في ساحات القتال. يُعاد تعريف السياسة من كونها فعلًا أيديولوجيًا إلى كونها عملية تقنية – توازن بين السيطرة، والكفاءة، ورأس المال.

في هذا السياق، تُطرح تصورات لإدارة جديدة لغزة، تحت مسمّى "الإدارة العربية–الإسلامية–الدولية"، تموّلها دول الخليج وتشرف عليها قوى غربية. يصفها الكاتب بأنها "حُكم بالتخطيط لا بالرضا"، إذ تُمثّل نموذجًا للسيادة المُدارة، حيث يُستبدل الثائر بالخبير، والشعار بالميزانية. فالإخلاص السياسي يُقاس اليوم بتدفّق الاستثمارات لا بالانتماء العقائدي.

ويضيف المقال أن التحوّل الجاري ليس سياسيًا فقط، بل جيو–اقتصادي أيضًا. الشرق الأوسط يُعاد تشكيله عبر شبكات البنية التحتية: موانئ، وخطوط أنابيب، وسكك حديدية، وممرات رقمية تربط القارات. باتت الكهرباء والمدفوعات الإلكترونية أدوات دبلوماسية جديدة. وتلعب دول الخليج دور المركز المالي والتكنولوجي لهذا النظام الناشئ، إذ تسعى لتجسيد الشرعية عبر التنمية لا الخطاب، مستفيدة من تراجع الهيمنة الأمريكية وبروز نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب تقوده آسيا والصين.

يعرض الكاتب هذا التحول بوصفه انتقالًا من التبعية إلى التوازن، حيث لا تنفصل الدول العربية عن الغرب، لكنها تتخذ موقعًا وسطًا بين واشنطن وبكين. النظام القادم لن يكون أحادي القطب، بل متشابكًا يعتمد على المصالح المتبادلة.

في هذا المشهد الجديد، تقف إسرائيل عند مفترق طرق: تمتلك قوة عسكرية غير منازعة، لكنها تخسر تأثيرها الإقليمي مع انكشاف حدود قوتها في حرب غزة. فالعصر الذي تُقاس فيه السيطرة بالسلاح يفسح المجال لعصر تُقاس فيه بالقوة الاقتصادية والصورة والاندماج الإقليمي. ومع سقوط بنيامين نتنياهو، كما يتوقع الكاتب، سينهار مفهوم "إسرائيل الكبرى"، ليبدأ زمن البراغماتية والتسويات المتبادلة.

ويبرز في قلب التحوّل ما يسميه الكاتب "محور الرياض"، إذ يعيد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تعريف موقع المملكة، من دولة نفطية إلى لاعب هندسي في مستقبل المنطقة. يجمع بين التواصل مع الغرب والانفتاح على إيران والصين، ويستخدم المال والدبلوماسية لبناء توازنات جديدة تربط بين الخصوم التقليديين. بذلك تصبح السعودية محورًا لا يدور حول أحد، بل يدور حولها الجميع.

أما الولايات المتحدة، فتبقى حاضرة ولكن بأدوات مختلفة: تمارس نفوذها عبر القطاع المالي والصناعي، لا عبر الجيوش. بينما تصعد تحالفات بديلة مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون ومجلس التعاون الخليجي، لتشكل محورًا جديدًا يربط بين روسيا والصين وإيران، ويعتمد على استقلال مالي وتكنولوجي يقلل من سطوة الدولار والعقوبات.

يختم الكاتب بأن ما يجري ليس تفككًا للمنطقة، بل إعادة تركيبها. يظهر شرق أوسط "ما بعد الشرق الأوسط"، لا يُعرَّف بالصراع، بل بالتلاقي، ولا تحكمه الفوضى، بل حسابات القوة الاقتصادية. ومع أن هذا النظام الجديد قد يجلب استقرارًا ظاهريًا، إلا أن السؤال الأخلاقي يبقى حاضرًا: هل كان لا بدّ أن يُبنى هذا النظام على أنقاض غزة، وأن يولد "النظام العربي الجديد" من رحم الإبادة؟

https://politicstoday.org/the-gaza-reckoning-from-war-to-order/